ثقافة المصادفة واشكالية الهوية
إعداد :الدكتور علي عبد الرءوف
استاذ العمارة ونظريات العمران
جامعة قطر
البحرين دولة صغيرة مساحة وسكاناً، ولكنها تتميز بأنها جزيرة سابحة في مياه الخليج مفعمة بالحياة والأحداث. هذا الواقع الجغرافي، بعمقه التاريخي، افرز علاقات متعددة بين الانسان والمكان منها الاقتصادي والثقافي والعمراني المعماري والبيئي. لقد استشعر أهل البحرين الأوائل أهمية الخليج لجزيرتهم فهو مكان الرزق ومنبع الحياة، بل أنه أصبح مصدر الرخاء عندما أنتقل أهل البحرين من صيد الأسماك إلى الغوص بحثا عن اللؤلؤ، ثم الاتجار فيه مع تجار الهند واوروبا. في تلك الحقبة كانت أكواخ الصيادين المنتشرة على طول الساحل وخاصة ساحلي مدينتي المنامة والمحرق تمثل ملمحاً هاماً من الصورة البصرية للمكان مثلها مثل القوارب الخشبية والفرضة أو الميناء القديم، بينما تتوارى إلى عمق المستقرة التقليدية الأحياء أو الفرجان السكنية كما كانت تسمى. كانت تلك الأكواخ البسيطة ذات قيمة كبرى فهي نقاط للانطلاق ومحطات الاستقبال من وإلى غموض الخليج وأعماقه وأخطاره. كانت تلك الأكواخ منشآت خشبية شديدة البساطة استخدم في بنائها أو بالأحرى تركيبها جذوع النخيل والسعف وبواقي الأخشاب التي استخدم الممتاز منها في صناعة قوارب رحلات الصيد والغطس (راجع أعمال الأديب البحريني خالد البسام: خليج الحكايات، تلك الأيام، يا زمان الخليج).
عندما أُكتشف البترول في البحرين عام 1931م وبدأت عملية التنقيب المكثف ثم أبحرت السفن بالبترول في بداية الاربعينيات من القرن الماضي لتعلن دخول البحرين حقبة جديدة في
تاريخها المعاصر، بالقطع فقد أصبحت البحرين دولة نفطية، وتحولت قرية الصيادين والطواشين (تجار اللؤلؤ) والنواخذة (الغواصين) والقلافين (صناع المراكب) الى مدينة مصدرة للنفط ينتظر سفنها عالم غربي شره للذهب الاسود. من أهم التحولات الحضارية والثقافية، في تلك الحقبة، تلك التي شهدتها العلاقة شبه المقدسة بين الانسان والمكان (أهل البحرين والخليج) حيث تحولت إلى علاقة هامشية فلم يعد الصيد عملاً في مكان ينتج ويبيع النفط وتتدفق عليه أرباح طائلة، ولم تصبح مخاطرة الغوص من أجل البحث عن واستخراج اللؤلؤ عملاً مجدياً وخاصة مع ظهور اللؤلؤ المزروع صناعياً في اليابان (راجع الاعمال الروائية للأديب عبد الرحمن المنيف: مدن الملح). ولذا كان طبيعياً أن تتحول كل أكواخ الصيادين وملحقاتها وأرصفتها العائمة فوق مياه الخليج إلى كيانات مبعثرة مهملة تداعى معظمها ثم اختفى تماما بسبب شدة الاهمال وفقد الاحتياج الوظيفي.
دراما المصادفة واحياء كوخ الصياد في فينيسيا
تبنت وزيرة الثقافة في البحرين الشيخة مي آل خليفة، وهي من أهم الشخصيات المؤثرة في المشهد الثقافي المعاصر، منذ توليها منصبها فكرة انتاج مشروع ثقافي متكامل للبلاد يتضمن التوازن بين قيمة الحفاظ على الموروث وفضيلة الانفتاح على المشروع العالمي الثقافي والمعرفي. في إطار هذا المفهوم شجعت الوزيرة الجميع لمشاركة البحرين، وللمرة الأولى في تاريخها، في بينالي فينيسيا للعمارة لعام 2010م، وكونت لهذا المشروع فريقاً متنوعاً من المعماريين والعمرانيين. قاد التصميم وصياغة المفهوم التصميمي للجناح البروفيسور هاري جوجر من ستوديو لابا بمدرسة لوزان في سويسرا، بينما تكون فريق العمل البحثي من مجموعة واعدة من المعماريين الشباب الوطنيين تحت اشراف معمارية محترفة تقود ادارة المشروعات المعمارية بوزارة الثقافة وبمساعدة عضو هيئة تدريس بقسم العمارة بجامعة البحرين. الفريق البحثي الشاب كان مسئولا عن رصد واختبار التغيرات العمرانية التي اثرت على المناطق الساحلية في البحرين منذ اكتشاف البترول الى الوقت المعاصر وتحديد العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت في مثل هذه التغيرات.
«مشاركتنا في بينالي العمارة هي جزء من جهودنا المستمرة لتعزيز المشهد الثقافي لمملكتنا الجزيرة الصغيرة، وللمشاركة في النقاش المعماري المعاصر، ممثلين لصوتا من منطقة غالباً ما يتم التحدث عنها، ولكن القليل يقال عن التجارب والتحديات بها. عندما بدأنا جمع الأفكار حول كيفية تمثيل مملكتنا في هذا المعرض، سرعان ما اتفقنا أن أهم ما يميز مجتمعنا، وفي الوقت ذاته تمثل تحديات جوهرية في العمارة والعمران لدينا، هي العلاقة المتطورة باستمرار مع البحر(الخليج)».
من تعليق الشيخة مي آل خليفة، وزيرة الثقافية في البحرين بعد الفوز بالجائزة.
التفسيرات متعددة للكيفية التي ادت الى قرارا نهائيا دعمته الوزيرة، وانتهى الى شكل الجناح الذي سيمثل البحرين في دورة البينالي، وكان القرار بالفعل مفاجأة للجميع. فقد قررت اللجنة اختيار المشاركة بتكوين يعتمد على كوخ كامل من اكواخ الصيادين القديمة ومعه كل الملحقات الخاصة به ليكون مشكلا للقلب الرئيس للجناح وبؤرته التشكيلية والفراغية ثم طورت الافكار وانتهت الى التصور النهائي للعمل المشارك المكون من ثلاثة اكواخ بحرية أصلية، تمثل جزءا بارزا من التراث البحري الخليجي، من تلك التي استخدمها الصيادين للراحة بعد العودة من رحلات الصيد، وتم تفكيكها واعادة تركيبها في الجناح المخصص للبحرين في البينالي كما كانت بالضبط حينما رصدت ووثقت على ساحل البحرين، وكانت الرسالة الضمنية للجناح هي معاناة الهوية البحرينية المعمارية في حقبة العولمة كما طرح فريق المشروع رؤيته في كتالوج المعرض حيث سمي الجناح «استرد- reclaim». وتم بالفعل نقل الاكواخ من البقية الباقية المتناثرة على الشواطئ لعشرات السنين وانتقلت في موكب جليل من بين رمال المنامة والمحرق الى اضواء فينيسيا الساطعة لتقع عليها ابصار العالم كله بعد ان كانت تلك الأكواخ المتهالكة تستجدي قفزات طفل أو إرتكاز عجوز أتعبه مشواره على الساحل المحمل بالذكريات.
«كان طموحنا إنشاء مكان ممتع ومثير يريد الناس أن يتجمعوا ويقضون أوقات الراحة به ويتعرفون بعفوية على أحد الموضوعات الأساسية للثقافة والتراث في البحرين: العلاقة الحاسمة ولكن الضعيفة مع البحر…..الأكواخ أيضاً تتحدث عن موضوع آخر مثير للاهتمام: العمارة بلا معماريين».
من تصريح البروفيسور هاري جوجر وفريق المشروع بعد الفوز بالجائزة.
بينالي فينيسيا لعام 2010 كان شعاره و محوره الرئيس الذي اعلن للمشاركين العارضين هو «تلتقي الناس في العمارة People meet in architecture. كان هذا هو شعار الدورة الثانية عشر لبينالي العمارة التى رأس لجنة تحكيمها بيتريز كولومينا وضمت في عضويتها فرانشيسكو دال كو، وجوزيف جريما، وارارتا ايزوزاكي، ومورتيز كونج، و ترينه مينها. المعرض الثاني عشر قصد به أن يكون فرصة لتجربة الإمكانيات المتعددة للعمارة، كذلك لمراعاة التعددية المنهجية لها. والواقع أن إنفصال الأكواخ الثلاث، اثناء عرضهم في الجناح، عن موقعهم الطبيعي علي سواحل البحرين كثف جرعة عدم الراحة بل ورفض ما الت اليه العلاقة المعاصرة بين أهل البحرين وخليجهم الذي مثل كل شيء في حياتهم في الماضي البعيد. بينالي فينيسا للعمارة في دورته الثانية عشر كان دعوة لاختبار الفراغ المعماري وليس فقط ملاحظته او مشاهدته، وكانت فكرة الحوارات الوثائقية التي يستمع اليها الزائر ويري فيها انطباعات افراد المجتمع البحريني مكملة للتجربة البصرية والفراغية والحسية للجناح.
المفاجأة بكل ما تعنية الكلمة كان يوم اعلان الجناح الفائز بجائزة البينالي وبينما تتنظر الوفود الاوربية والامريكية وعمالقة المصممين والمعماريين، لم يصدق الحاضرين والاعلان يتردد
في الاذاعة الداخلية للقاعة الرئيسة: فوز البحرين بجائزة الأسد الذهبي، وهي التي تعني الجناح الأفضل على الإطلاق في هذه الدورة. فازت مملكة البحرين من خلال وزارة الثقافة بجائزة الأسد الذهبي، وفي مشاركتها الأولى، بفعاليات معرض العمارة الدولي الثاني عشر في مدينة البندقية، إيطاليا. نعم بالفعل كوخ الصياد الذي تشققت أخشابه وسقط سعفه وتداعت اعمدته، الكوخ الذي كان وحيدا منذ اسابيع ينازع الأنفاس الأخيرة على الشاطئ الرملي، كما حدث لعشرات بل لمئات من فصيلته على مدي العقود الماضية، ها هو فجأة اصبح حديث العالم ومحط الانظار احاطته كاميرات المصورين الصحفيين بأضوائها الخاطفة بهالة مقدسة ساهمت في تأكيد الجو الأسطوري لدراما فوز كوخ الصياد البحريني القديم بالأسد الذهبي.
الكوخ والهوية: الشعبي والرسمي
اعلن الخبر السعيد، المشرف للخليج وللعرب جميعا، في البحرين بتغطية اعلامية مكثفة، كما صاحب اعلان الفوز تكريم لفريق المشروع ولممثلي وزارة الثقافة، وتسابقت القنوات التليفزيونية والبرامج الاذاعية في استضافة الفريق والتحدث بإفاضة عن عبقرية الكوخ في التعبير عن هويه البحرين وعمقها التاريخي ورصيدها الانساني وتراثها الشعبي المتميز.
فجأة وبلا مقدمات أصبح الكوخ المتداعي المتهالك رمزا للوطنية وايقونة الهوية ودلالة النجاح. المثير للبحث والفحص هو الكيفية التي تلقى بها باقي الشعب البحريني هذا التسونامي الاعلامي الذي يؤكد على الكوخ كتعبير مثالي عن هوية البلاد، وكيف تعاملت النخبة والمسئولين عن اتخاذ القرارات التي تخص البيئة المبنية في البحرين بعد فوز الكوخ.
علي المستوى الشعبي أصبح كوخ الصياد هو المكان الأكثر أهمية وتبارت العائلات في إعادة بنائه وانتاجه ليكون مقرا للقاء ولم تنسى أن يكون علم البحرين ملمحاً هاماً في زخرفة الجناح. أما على المستوى الرسمي فكان التأثير أكثر استحقاقا للملاحظة، فقد تحول الكوخ الى مرجعية هامة ومعياراً جوهرياً في تقييم وتقرير نجاح المشروعات، حتى القومي منها، التي تهدف إلى التعبير عن هوية البحرين. ولإيضاح هذه القضية الهامة اتعرض بالتحليل النقدي إلى واحد من أهم المشروعات التي انطلقت في البحرين بعد الفوز بالأسد الذهبي، وهو مشروع إعادة تخطيط منطقة باب البحرين والذي تم من خلال مسابقة عالمية لتصميم تلك المنطقة الحيوية والهامة والتي تمثل الفراغ العمراني الأكثر أهمية في تاريخ وحاضر ومستقبل البحرين. فمنطقة باب البحرين تمثل قيمة تاريخية تنبع من حقيقة دورها في تاريخ مدينة المنامة حيث مثلت البوابة التي استخدمها المجتمع والصيادين والزوار والتجار القادمين إلى مرفأ المنامة للدخول الى سوق المدينة الشهير أو التخلل إلى باقي عمرانها .
حيث نظمت وزارة الثقافة مسابقة مفتوحة لتصميم الساحة المواجهة لباب البحرين والتي تعد منطقة جاذبة ومهمة من الجوانب السياحية والجمالية، وتتميز الساحة، موضوع المسابقة، باستراتيجية موقعها عند مدخل مدينة المنامة التقليدية، وهو الأكثر أهمية في مورفولوجية المدينة بأسرها. واستمرت المنافسة اعتباراً من 15 نوفمبر 2011 حتى 1 فبراير 2012 حيث تسلمت الوزارة قرابة الثمانين مشروعا من كل انحاء العالم. وقد نصت اشتراطات المسابقة على إن فراغ باب البحرين هو أحد الأماكن العامة القليلة الموجودة في مملكة البحرين، وقد تم تحويل ميدان باب البحرين تدريجياً إلى عدة مواقف للسيارات، غير أنه وبسبب أهميته التاريخية الكبيرة وموقعه في قلب الجزيرة، فإنه يتمتع بالمقومات التي تجعل منه ساحة مدنية عامة. وبالنظر للأحداث السياسية الأخيرة التي اجتاحت المنطقة، فإن المسابقة تسعى لمناقشة ما يجب أن تبدو عليه الساحات العامة الحديثة في العالم العربي، وكيف ينبغي استخدامها؟ ومن روادها؟ وكيف ستذوب مع بقية النسيج الحضري للمدينة؟ كما اكدت الشروط على اهمية الأخذ بعين الاعتبار حس المكان حيث يجب أن تعمل المقترحات المقدمة لميدان باب البحرين على استعادة الحس القوي للمكان وإعادة ميزة الميدان كنموذج في داخل البحرين. كذلك اهمية الارتباط بالواجهة البحرية ولذا يجب إعادة إحياء الارتباط والتكامل بين الميدان والواجهة البحرية. فعلى الرغم من أن البحر يقع اليوم بعيداً عن الموقع، إلا أنه من الضروري إعادة دمج الوجود التاريخي للبحر عند مدخل باب البحرين سواء أكان ذلك بطريقة مادية أو تصورية.
تأملات نقدية في المشروعات الفائزة
كما كان اعلان فوز الأكواخ البحرينية في بينالي فينيسيا مفاجأة، جاء أيضا إعلان الفائز بالجائزة الاولى في مسابقة تطوير منطقة باب البحرين مفاجأة، حيث فاز بها الطرح المعماريوالعمراني المقدم من مكتب لوكاس لنهر( Lukas Lenherr) الذي غمر الساحة بالمياه، وسأحاول في الجزء التالي تقديم تحليلاً نقدياً للأطروحات التصميمية الفائزة بالجوائز الثلاث الأولى.
الجائزة الاولى: فاز بها لوكاس لنهر( Lukas Lenherr) من سويسرا واسمى الحل المقدم «لؤلؤة الغوص»، وتم منح هذا المشروع الجائزة الأولى لأنه، تبعا للجنة التحكيم «تجاوز حدود موقع باب البحرين وعمد إلى استكشاف آفاق جديدة للوصول إلى مقترح حضري، في الوقت الذي تخطى فيه تماماً تلك الأعراف المتبعة للوصول إلى مواقع المياه في الأماكن العامة. إنه يقدم تصميم حضري مقنع وجذاب في الوقت ذاته، من خلال لفتة تغيير بسيطة جداً ولكنها جذرية».ولتفسير ما طرحته لجنة التحكيم عن المشروع يمكن رصد المقومات الاساسية للفكرة. فقد أعتمد الفائز في الفكرة التصميمية بالدرجة الأولى على مجموعة من الأكواخ التي تناثرت على مسطح مائي صناعي افترش أرض الساحة كلها. الحل يذكر بصورة قاطعة بفكرة الجناح البحريني في البينالي، ويصيغ معالجات شديدة التشابه مع أكواخ الصيادين التي شكلت قلب المعرض ويستخدمها وظيفيا في الأنشطة المختلفة مثل كوخ الشاي وكوخ الموسيقى وغيره. ومن الناحية الرسمية فقد امتدحت معالي الشيخة مي آل خليفة ورئيسة لجنة التحكيم العمل مصرحة بأن الفائز أعاد للبحرين صلتها بالبحر والذي ميزه عن جميع الأعمال المقدمة. وقد اسمى المتسابق طرحه التصميمي: لؤلؤة الغوص وهو نوع آخر من الاستدعاء المبسط للماضي لم يؤثر بعمق على الطرح. الأكثر خطورة هو انفصال الحل المطروح عن فكرة المكان العام والساحة وكيف يتحول الفراغ من مجموعة من الامكنة او بالأحرى الاكواخ الخاصة الى ملتقى جماعي.
الجائزة الثانية: من تصميم الفريق باوكاه (Baukuh) و جيدو تيسياو (Guido Tesio) من إيطاليا واطلقا عليه اسم «الغرفتان». وقد علقت لجنة التحكيم على المشروع قائلة: «لقد أسرنا قرار المهندس المعماري بتفكيك الموقع إلى مكونين أصغر، جاء أحدهما متجاوباً مع سياق باب البحرين بينما تعامل الآخر مع الفضاء الواسع ذو المساحة الأكبر. لقد تمكن المشروع من خلق شعور بالفضول مع إضافة عناصر مفاجأة على مستوى حضري وذلك بالتوازي مع الأنماط الحضرية الحالية، أنه في الواقع يقدم نموذجاً جديداً للساحات العامة داخل المدينة».
ما يمكن أن يضاف هو قدرة الحل على صياغة تدرج فراغي من خلال فراغ حميم متواصل مع مبنى باب البحرين ثم فراغ اكثر جماعية وترحيبا بالمجتمع المتعدد الذي تتميز به البحرين. الفراغ الاكبر او الحجرة الثانية بتعبير المتسابق، هو فراغ حدائقي تشكل من خلال بستان من النخيل، وهو مقوم اخر من مقومات هوية جزيرة البحرين التي سميت سابقا جزيرة المليون نخلة. هذا التدرج الفراغي يسمح بالممارسة الشعبية في الاحتفالات والاعياد ويحقق هدفا جوهريا من أي مكان عام في المدينة وهو السماح بتواجد جماعي مهيب وتجدد ابداعي في الانشطة اليومية أو الاسبوعية أو الموسمية التي يمكن أن تمارس خلال التركيبة الفراغية المرنة للمكان.
الجائزة الثالثة: حاز عليها بارتيزان بابليك Partizan Publik من هولندا وأسمى الحل المقدم منه باسم «نيو تايمز سكوير». وتناولته لجنة التحكيم قائلة: «من خلال اتباع نهج واقعي جداً تجاه ما يتوقعه المواطنون من الساحات العامة، فإن هذا الاقتراح لم يستبعد أي عنصر من عناصر الحياة العامة، وبدلا من ذلك تبنت هذه المشاركة جميع تلك العناصر مع التركيز بشكل خاص على العناصر ذاتية الحركة. إنه تصميم يتيح البرمجة الذاتية للمساحة من خلال حالتها الغير محددة، ويقر بأهمية وسائل الاتصال غير المادية داخل المدينة».
ولكن اللجنة لم يستوقفها استدعاء النموذج الامريكي بإطلاق اسم أشهر فراغ عام على الحل المطروح، وخاصة مع رغبة معلنة في اشتراطات المسابقة على أهمية التعبير الحاسم عن هوية وتاريخ البحرين. الحل أيضاً أعطى أولوية أساسية لانتظار السيارات والتي تنتشر أماكنها بصورة دائرية يتخللها قنوات من أنشطة مختلفة. أيضاً البنية الهندسية الدائرية للمشروع غير مبررة وخاصة أن المحاور الأساسية لهذه البنية لا ترتبط مع السياق المحيط سواء كان البحر من جهة أو باب البحرين وسوق المدينة من جهة اخرى. كما ان المبررات التي طرحها المتسابق لاستخدام البنية الهندسية الدائرية من حيث مشابهتها لحركة الطواف في الحرم المكي لا تتوافق على الاطلاق مع فراغ عمراني طابعة التواصل والانفتاح على المحيط وليس فراغ مركزه أقدس نقطة فيه هي مركزه: بيت الله الحرام. وهذا مثال آخر على سذاجة المصمم الوافد عندما يريد فقط الربط السطحي المصطنع بين حل تصميمي وثقافة عميقة لم يتمكن من فهمها واستيعابها في فترة الاطار الزمني للمسابقة.
التزييف الصادق والصدق المزيف
عندما نقيم الشهرة المفاجئة، بعد اهمال لعقود طويلة، تلك التي حصل عليها كوخ الصياد وكيف استخدمت لفرض وعي مزيف على المجتمع المحلي، ودفعه دفعا الى تبني قناعة ليست أصيلة وغير مرتبطة بحياته اليومية واسقطت من قاموس عاداته المعاصرة. تلك القناعة بان كوخ الصياد الخشبي هو التعبير الأمثل عن هوية البحرين وتاريخها وحضارتها، تلك الحالة من «تزييف الوعي العام» استمرت لتصل أيضا إلى حالة «تزييف وعي النخبة»، حينما تسعد لجنة التحكيم بحل عمراني للمنطقة الأكثر أهمية في مدينة المنامة: باب البحرين، يملأ المنطقة بمياه الخليج وينثر عليها مجموعة من أكواخ الصيادين التي أستنتج المصمم الذكي في دراسته التمهيدية للمسابقة أن هذه الأكواخ هي مفتاح الفوز في أي مسابقة تقيمها وزارة أو هيئة تحتفل أو بالأحرى مازالت تشعر بنشوة فوز الكوخ في بينالي 2010م.
وهم المشاركة الشعبية
من النقاط الهامة ايضا انه بعد، وليس قبل، انتهاء التحكيم والاستقرار على الحلول الثلاث الفائزة، عرضت كل المشروعات على جمهور المجتمع، في معرض عام، لمعرفة آرائهم ولإتاحة الفرصة لهم لاختيار ما يرونه مناسبا لاحتياجاتهم وطموحاتهم. المثير للتساؤل ان الجمهور اختار حلا ليس له علاقه بالحلول الثلاث الفائزة والاكثر اثارة انه الحل الذي طرح بوضوح فكرة الامتداد الفراغي للساحة العامة لتصل الى حدود الواجهة البحرية وخط الساحل كما اعتادت ان تكون في التشكيل التقليدي للمدينة .
ملاحظات ختامية
ذكرني كوخ الصياد بملقف الهواء التقليدي (البادجير). تأمل مثلاً هذا العنصر الأصيل في العمارة الخليجية، أصبح مفردة هامة في العمارة الخليجية التقليدية للأداء المناخي شديد الكفاءة والقيمة البصرية والتشكيلية التي أضافها على عمارة وعمران المدن والمستقرات الخليجية التقليدية، وبدلاً من تطويره بتقنيات ولغة العصر، ابتذل أشد ابتذال في محاولات ساذجة لإلصاقه بالعمارة المعاصرة في كل المدن الخليجية حتى لو أنتهت بلوحات مرسومة مسطحة الأبعاد لملاقف هواء على قمة ناطحة سحاب زجاجية مكيفة الهواء بالكامل أو بمشروعات كاملة تتناثر على أسطحها ملاقف مزيفة مسدودة من الداخل بأسقف صناعية من الجبس والصوف الزجاجي.
لم يعد الصيد مهنة ولم يعد الكوخ مكانا للقاء الاجتماعي في البحرين، بل وفي كل الدول الخليجية، ولكن تداعيات الفوز بالأسد الذهبي حولت الكوخ الى رمزا للهوية في عمارة وعمران يسعى للمعاصرة.
التساؤل الجوهري الذي حاولت بلورته، في سياق هذا المقال، هو ما هي مشروعية ومصداقية هذه الهوية وكيف يمكن السيطرة عليها، إذا كان هذا ممكناً، لوقف الاستخدام المفرط والسطحي لهذا المكون وابتذاله معمارياً وعمرانياً كما سبق وابتذل البادجير او ملقف الهواء.
الخطورة هنا أن كل مدن الخليج تخضع لمراحل متسارعة من النمو والتطور وغالبا ما تفتقد الوقت بل وأحياناً الرغبة في تقييم ما حدث لتستشرف من خلاله ملامح مستقبل أفضل للمدينة وسكانها. اذن القضية تستحق التحليل العميق لأنها تكشف عن اشكالية ينشغل بها المجتمع الخليجي عامة وبكل طوائفه وبكل نخبة وهي قضية الهوية والتعبير المعماري والعمراني عنها. وغالبا ما تسرب لهم حلول للتعبير عن تلك الهوية تكون في اغلبها سطحية وساذجة، ولكنها تتكرر وتنتشر في عمارة وعمران هذه المدن وينزلق الجميع إلى تصديقها والاحتفاء بها تعبيراً عن الشخصية والهوية لمدن تتعولم وتسعى إلى مواقع بارزة على مسرح العمارة والعمران العالمي.
إضافة تعليق جديد