التحولات في بيئة العمل
الناشر : Pavillon de L’Arsenal
إعداد : المهندس إبراهيم عبد الله أبا الخيل
صدر هذا الكتاب ليصاحب معرض أقامته بلدية باريس عن عمارة المباني المكتبية، يهدف الكتاب التعريف بالعمارة والاستعمالات الحديثة للمباني المكتبية. يستعرض الكتاب المشاريع المكتبية على مر العصور ويصاحبه دراسات تحليلية و جدوى اقتصادية لهذا النوع من المباني.
ويوضح الكتاب أن المباني المكتبية لم تتطور إلا بعد أن أطلق لويس سوليفان المعماري الأمريكي الشهير مقولته «الشكل يتبع الوظيفة» في نهاية القرن التاسع عشر، فمنذ ذلك الحين بدأ التحول الكبير في عمارة المباني المكتبية، حيث أصبح هناك أنواع مختلفة من المباني المكتبية مثل المقر الرئيس أو البرج المكتبي أو المجمع المكتبي أو المباني المكتبية المشتركة.
ونتيجة للتقدم التقني واستخدام المعلوماتية في نهاية القرن العشرين وتأثير ذلك على طبيعة العمل المكتبي ظهر تطور جديد في تصميم الفراغات المكتبية بحيث أصبح يمكن أن يتم العمل المكتبي خارج المبنى وبدون الحاجة إلى تخصيص وحدة عمل ثابتة، وبذلك أنتقل العمل المكتبي إلى مرحلة جديدة وأصبح المكان المكتبي أقل أهمية مما كان عليه خاصة مع إستخدام الإنترنت والحاسبات المحمولة .
المبنى المكتبي عبر التاريخ
ظهر المبنى المخصص للإستعمال المكتبي بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، في البداية استخدمت قصور النبلاء والأغنياء وتم تحويلها إلى فراغات مكتبية لتأوى الوزارات والهيئات الكبرى والبنوك . ومع تطور الوظيفة المكتبية وانتشارها أصبح من الضروري تصميم مباني خاصة بالوظائف المكتبية. وقد ساعد ظهور المصعد الكهربائي على زيادة أدوار وارتفاعات المباني ودفع المطورين إلى الإهتمام ببناء مباني مكتبية للإيجار، وقد أكد المهندس سوليفان إن نشأة المباني المكتبية ماهي إلا نتيجة تعاون كل من المستثمرين والمهندسين والمنفذين، بالنسبة لسوليفان المبنى المكتبي هو أحد أنواع المباني، ويتكون من 3 أقسام : مجموعة أدوار متكررة ومتماثلة بعضها فوق بعض، وقاعدة ( الدور الأرضي والميزانين) ذات استعمالات عامة أو تجارية، ويعلو المبني دور يضم المرافق. في البداية أعتمد تصميم المباني المكتبية على الهيكلة الوظيفية الإدارية لتنظيم الفراغات، وكانت تصميمات واجهات المباني تتبع التكرار التصميمي للوحدات المتكبية . هكذا ظهرت الأبراج المكتبية ذات التجريد والتكرار في واجهاتها. كانت هذه المباني تأوي العقول التي تدير المدن و البلاد وفيها القيادات ومراكز القرارات التي توجه الأنشطة في المدينة وتوجد بها كل الوسائل والآلات الحديثة للإدارة لكي تخدم حركة البنوك والصفقات التجارية والقرارات الاقتصادية والتقنية والتجارية بحيث كان يتم تقييم مبانيها ليس من خلال تصاميمها وأشكالها التجريدية بل من خلال موقعها الجغرافي والمساحات المكتبية التي توفرها.
توجه تصميم المباني المكتبية إلى حل المشاكل الداخلية مثل توفير الإضاءة الطبيعية فظهرت المباني الزجاجية مثل مبنى سيجرام للمعماري ميس فاندوره (1958م)، كما ظهرت الحاجة إلى فراغات مكتبية مرنة مفتوحة تسمح بتغيير التوزيع المكتبي كلما اقتضت الحاجة وظهرت المفروشات المكتبية النمطية من وحدات مكتبية وخزائن حفظ الوثائق وكراسي يسهل تخزينها وتأخذ أقل حيز ممكن .. إلخ. وعمد المصممون إلى استخدام شبكات تصميم مساحية نمطية لتوزيع وحدات العمل المكتبية (المكاتب) تتماشى مع تقسيمات وحدات البناء وذات قياسات تعتمد على الاستخدام الاقتصادي للمساحات بعروض تتراوح بين 1٫5 متر للوظائف الأدنى إلى 3 أمتار للوظائف المتوسطة، أما الكوادر العليا فكانت تخصص لها مساحات مكتبية منفردة ومنفصلة، ونتيجة لذلك ظهرت عمارة مكتبية جديدة اتسمت بواجهات ذات وحدات متكررة أو مصنعة مسبقاً.
لقد كان للولايات المتحدة الأمريكية السبق والتأثير على العمارة المكتبية في العالم من خلال الأبراج المكتبية التي اشتهرت بها المدن الأمريكية الكبرى منذ وسط القرن العشرين الميلادي.
في السبعينيات الميلادية ومع ظهور الحاسبات الالكترونية و ما يمكن أن توفره هذه الحاسبات للعمل المكتبي وحاجتها إلى توصيلات كهربائية وكابلات اتصال معقدة، بدأ المبنى المكتبي مرحلة جديدة أدت مع تعاقب الزمن إلى ظهور ما يعرف اليوم بالمباني الذكية.وقد تزامن مع هذا التوجه الجديد، التفكير في تحسين ظروف الحياة العملية للإنسان، من حيث عدد ساعات العمل اليومية، ومن حيث تأثير استخدامات الحاسبات التي بدأت سعتها وقوتها تزداد يوماً بعد يوم، و كذلك تأثير وسائل الإتصال الحديث على طبيعة العمل المكتبي. كما بدأ البحث في مدى امكانية إنجاز العمل خارج المكتب أو في المنزل لتوفير المدة الزمنية التي يستغرقها التنقل من المسكن إلى أماكن العمل ولتحسين حياة العاملين والتحرر من الفراغ المكتبي التقليدي.
وفي وسط التسعينيات الميلادية أصبح العمل المكتبي يعتمد بطريقة كلية على الانترنت والحاسبات.
وبعد قرارات المحافظة على البيئة والحد من انبعاثات الكربون التي اتخذها مؤتمر البيئة العالمي في كيوتو 1994م، ظهرت ضرورة المحافظة على البيئة والتوفير في الطاقة وانتشر مفهوم المباني المكتبية الذكية التي تدار مرافقها بواسطة الحاسبات الالكترونية لتحقيق أكبر معدل من المحافظة على البيئة والتوفير في الطاقة الكهربائية والمياه، بل تعدى ذلك إلى مفهوم الاستدامة الذي أعاد من جديد التفكير في تصاميم المباني بأسلوب جديد يراعي دورة حياة المبنى منذ بناؤه وحتى إنتهاء صلاحيته وهدمه.
كل هذه التطورات المتلاحقة أدت إلى تطور كبير في عمارة المباني المكتبية.
التحولات الاقتصادية والتصميمية والتخطيطية للمبنى المكتبي
ينظر اليوم للمبنى المكتبي على أنه سلعة تجارية قد تتعارض أهدافها مع الأهداف المعمارية والتخطيطية للمبنى المكتبي، فأهداف السلعة هي مدى العائد منها، بينما الأهداف المعمارية والتخطيطية هي مراعاة المصلحة العامة لسكان المدن وجعل حياتهم مريحة. فلقد تكونت الشركات العقارية الكبري وشجعت على استثمار أموال الناس في تطوير مشاريع عقارية مكتبية وتحولت قيمة هذه المباني إلى سندات يمكن بيعها وشرائها حسب تقلبات السوق. وبجانب هذه التحولات الاقتصادية نشأت تحولات على مستوى استعمال المبنى المكتبي،
اليوم يتم بناء المبنى المكتبي بدون تحديد طبيعة العمل فيه بحيث يكتفي فقط بتحديد شبكة تخطيطية في المساحات المكتبية، يمكن أن يتم فيما بعد استخدامها لوضع وتوزيع الاستعمالات حسب احتياجات كل مستعمل.
هذا النوع من المباني المكتبية يتم طرحه لإستقطاب المستثمرين من كافة أنحاء العالم . وهؤلاء لا يهمهم إلا العائد المادي الذي يمكن التحقق منه من خلال شاشات الكمبيوتر فيشترون أو يبيعون حصصهم في هذا المبنى. وإذا كانت هذه التحولات مؤثرة بشكل كبير على قيمة المبنى المكتبي إلا أن الجميع يتفق على أن أهم المؤثرات يكمن في الموقع الجغرافي للمبنى فهو الذي يقرر مثلاً قيمة الإيجار. يتأثر موقع المبنى المكتبي من خلال معايير مثل سهولة الوصول إلى الموقع، وجود نقل عام قريب، كثافة المباني المكتبية في المواقع المجاورة له وقربه من المناطق التجارية.
مكتب المستقبل
تطور المبنى المكتبي في العشرين عاماً الماضية في بيئة قليلة التعقيد، فالمكتب كان عبارة عن مكان يتم استخدامه من مجموعة من الموظفين في إطار مواعيد عمل محددة. اليوم لم يعد هذا الوضع قائم نتيجة لإستخدام الهواتف الذكية والحاسبات والانترنت، اليوم يمكن العمل من أي مكان بدون مواعيد عمل ثابتة. المكتب الثابت أو المكان لم يعد ضرورياً، في الحقيقة المبنى المكتبي ليس فقط هو الذي تغير بل كل الفراغات التي نمارس فيها حياتنا قد تغيرت (المسكن، أماكن النقل، أماكن الترفيه .. إلخ).
يمكن اليوم ممارسة أنشطة أخرى في المكتب غير النشاط المكتبي فعبر الانترتت يمكن التبضع وشراء احتياجاتك وأنت في مكتبك، ويمكن استخدام الانترنت للترفيه والتواصل مع الآخرين (Facebook) . حتى مفروشات المكتب التقليدية شهدت تحولات من خلال هذا المفهوم دفعت إلى إدخال عناصر ترفيهية واسترخائية إلى الفراغ المكتبي كان يجب للمبنى المكتبي أن يستجيب لها في هذا الإطار الحياتي الجديد.
في السابق شهد المبنى المكتبي تحولات في توزيعه الداخلي أعتمدت في البداية على إيجاد فراغات تشبه فراغات المصانع يتم جمع الموظفين ذوي الرتب المتدنية فيها، بينما تؤثث مكاتب منفصلة للكوادر العليا، هذا التقسيم كان يتبع التقسيم الاجتماعي الطبقي. في الستينيات الميلادية ظهرت المساحات المكتبية المفتوحة المرنة التي تسمح بالتواصل السريع بين الموظفين مع توفير سهولة في تغيير الاستعمال كلما استدعت الحاجة للتغيير، بعد ذلك جاء عصر استخدام الحاسبات الالكترونية في الثمانينيات الميلادية، ولقد أدى استخدام الحاسبات إلى تغيير جذري في تصميم المكاتب من حيث الحاجة إلي فراغات جديدة تسهل عملية توزيع شبكات كابلات الكمبيوتر وأطرافها النهائية، بالإضافة إلى شبكات الهاتف والكهرباء حيث أصبحت هذه الشبكات هي المحور الأساس للعمل المكتبي لتعزيز التواصل داخل وخارج الفراغ المكتبي. في التسعينيات حصل تطور جديد في الإطار الإلكتروني عندما ظهرت شبكات الانترنت واستعمال الهواتف الذكية الأمر الذى أدى إلى التقليل من أهمية الفراغ المكتبي الثابت.
في المدينة كانت هذه التحولات عاملاً مهماً لإعادة النظر في موقع المبنى المكتبي واستعمالاته الداخلية فظهرت مباني مكتبية انتشرت في أنحاء المدن بحيث يتم استعمالها حسب الحاجة، وفي أي وقت لقاء إيجار مؤقت. تهدف هذه المكاتب إلى إختصار زمن الانتقال بحيث يمكن من خلالها ممارسة الأعمال دون الإضطرار إلى الذهاب إلى مقر المكتب الرئيس إذا كان بعيداً.
منذ سنوات قليلة ظهر أسلوب جديد لإستخدام الحاسبات (Cloud Computing) بحيث يمكن وضع كافة المعلومات الخاصة بأي مؤسسة في خادم يمكن الوصول إليه من أي مكان، مما يدفع إلى التخلي الكامل عن المساحة المكتبية.
لكن التطور في عمارة المبنى المكتبي مازال مستمراً ومازال المجال مفتوحاً لتطورات جديدة، فبالرغم من أن الاعتماد على المكتب الثابت بدأ يقل إلا أن المؤسسات المكتبية مازالت متواجدة في مقرها، والطلب على المباني المكتبية لم يتأثر ً بالتحولات التقنية الحديثة.
إضافة تعليق جديد