صروح عمرانية للشراء والترفيه والثقافة
إعداد: المهندس إبراهيم عبد الله أبا الخيل
تعتبر المراكز التجارية اليوم صروح معمارية تؤثر على عمران المدن وحياة سكانها ، فهي تجمع لمرتاديها وتحت سقف واحدكل ما يحتاجونه من سلع (غذائية ، ملبوسات، عطور ومستلزمات مختلفة)، بل هي توفر كذلك فضاءات ترفيهية متكاملة للاطفال والبالغين وتوفر اماكن للتلاقي بين الناس إجتماعياً. إلا ان البعض يرى أن هذه الوظائف الإيجابية التي تقوم بها المراكز التجارية تخدم اهدافاً تجارية لصالح اصحابها بل لا يتوانى هؤلاء في إتخاذ كل الطرق والوسائل التي ترغب بل تجبر المتسوقين على الإستهلاك اكثر فأكثر لسلع يكتشفون بعد شرائها أنها غير ضرورية . اليوم تواجه المراكز التجارية في انحاء مختلفة من العالم تراجع في دخولاتها و في زوارها ، البعض يرى أن ذلك هو نتيجة للتنافس الحاصل فما بينها لكن هانك اسباب اخرى هامة سوف نتناولها تعتبر اساسية إذا ما أردنا معرفة حقيقة ما هو حاصل في هذا المجال . من جهة أخرى ظهر واضحا منذ البداية أن دور المعماريين كان اساسياً في ابتكار هذه المراكز وتطويرها وطرق إدارتها بهدف زيادة عائداتها المادية. نتناول كذلك نماذج من مشاريع المراكز التجارية المعاصرة والتحسينات التي ادخلت عليها لتطوير ادائها .
تاريخيا فإن أوئل المراكز التجارية ـ كما نعرفها اليوم ـ ظهرت في امريكا ، الفكرة بدأت عندما اقام احد المطورين مرآبا عاما للسيارات، قريبا من اماكن التسوق ليخدم متجر عام وليحقق مبدء عمراني إقتصادي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حول ضرورة توفير مواقف للسيرات لتسهيل الاعمال NO PARKING NO BUSINESS اي لا مواقف لا اعمال . بعد ذلك إسترشد مطورو المراكز التجارية بتعاليم المعماري فيكتور جروين ويعتبر مبتكر المراكز التجارية الحديثة. وهو معماري نمساوي مهاجر إلى امريكا إستطاع إقناع احد اصحاب المتاجر العامة في مدينة ديتريوت بفتح مراكز تجارية في الضواحي خارج المدينة، حيث لاحظ هجرة السكان اليها، نظراً لإنخفاض أسعار مساكنها إلا أن ذلك شكل عائقاً بدء يحول دون ارتايدهم للمتجر الذي كان في وسط المدينة لعدم توفر مواقف سيارات كافية في وسط المدينة. صمم جروين ٤ مراكز تجارية بأساليب تطويرية وادارية جديدة شاعت بعد ذلك في مشاريع المراكز التجارية لفترة من الزمن وإنشرت في امريكا واوروبا . كان التصميم المعماري في هذه المراكز يهدف الي زيادة العائد المادي منها، فعندما استخدم التكييف المركزي فيها كان الهدف توفير أجواء مريحة ترغب المتسوقين من إطالة بقائهم داخل المركز. كما عمد جروين إلى وضع السلالم المتحركة بتبديل مواقعها من كل دور بحيث يجبر مستعمليها المرور بأكبر قدر من المحلات ، وصمم التوزيع الداخلي للمحلات كالتيه LABYRINTH ليتحكم في مسارات حركة المتسوقين من حيث وتيرة الحركة وإتجاهها. وهكذا اخضعت اساليب الشراء للتصميم المعماري وللمدراء التجاريين للمراكز. من الغريب بعد ذلك ان جروين اصبح في النهاية من اكبر منتقدي المراكز التجارية نظرا لكونها تشكل الآن شراء ترغب بل تجبر الناس على الاستهلاك اكثر فأكثر كما أن مواقف السيارات فيها كانت تشغل مساحات كبيرة غير ضرورية وتشوه الفضأات العامة، فكان يدعم معارضيها، وينادي بالإستغناء عن السيارات قبل أن يعود إلى فيينا ويشاهد انتشار المراكز التجارية التي ابتكر فكرتها، وما مدي تأثيرها السلبي علي الحياة العامة التقليدية في النمسا والتي كان قد افتقدها في امريكا، والتي كان يتوق في الرجوع اليها.
لم يتوقف ذلك انتشار المراكز التجارية في امريكا وفي مختلف دول العالم، بل ادخل عليها المعماريون الذين جاؤوا بعد جروين تحسينات فتعددت وظائفها من مجرد توفير محلات تجارية الي مراكز ترفيهية لجذب اكبر قدر من المتسوقين وتوسعت مبانيها وتحولت من مجرد كونها فضاءات للشراء إلى فضاءات تواصل إجتماعي وترفيه. حتى تأثر المطورون بافكار مدن ديزني لاند لالعاب الاطفال وادخلوها الي مراكزهم لتوفر تجربة من الاجواء الإحتفالية الخيالية المبهرة للمتسوقين بهدف إعادة هذه التجربة الإستثنائية المفرحة مرارا وتكرارا ودفعهم إلى التسوق من المحلات التي فيها. لقد تحولت هذه المراكز إلى صروح تجارية كبرى، ومن مباني ذات عمارة مبسطة إلى مباني ذات اشكال معمارية غاية في الإبهار والجذب وتنافس كبار المعماريون في العالم على تصميمها.
اليوم تعاني المراكز التجارية من انخفاض في دخولاتها السنوية نتيجة لحرب الاسعار بين المتنافسين ، ولكن ليس لذلك فقط فمنذ عام ٢٠٠٧ م .والمؤشرات تؤكد ان المستهلكين اصبحوا لا يذهبون إلى المراكز التجارية إلا وهم مضطرون لأنهم بداؤ يكتشفون الاساليب التي تمارسها هذه المراكز لدفعهم الي شراء اشياء اكثر من إحتياجاتهم تحت تأثير وسائل ترغيب وإغراء حديثة مدروسة، ويأتي ذلك مع مرور الكثير من مناطق العالم بأزمات إقتصادية متلاحقة ادت إلي انخفاض القوة الشرائية ودعت الناس الي إعادة النظر في اسلوب الحياة الإستهلاكي للمجتمعات المعاصرة.
كما يمكن أن نضيف إلى ذلك التأثير السلبي للتجارة عبر الإنترنت والتي يتوقع لها أن تستحوذ على حصة كبيرة من السوق، ففي استطلاع أجري في عام 2014 لآراء عدد من مدراء قطاع المراكز التجارية حول رؤيتهم لمستقبل التجارة الواقعية بالمقارنة بالتجارة عبر الإنترنت اجمع هؤلاء على أنه في غضون عشر سنوات من الآن فإن ٪27 من حصة التجارة الواقعية سيتحول إلى التجارة عبر الإنترنت (في عام 2015 وصلت النسبة إلى 7٪) مما يدعو إلى الإعتقاد بأن مساحات المراكز التجارية يجب أن تنكمش. ومن جهة أخرى فإنه نتيجة إلى حرب الأسعار والمنافسة والذي يتمثل في التخفيضات المستمرة للسلع يخشى البعض من انصراف الناس عن شراء هذه السلع، حيث يؤدي خفض اسعارها إلى التقليل من قيمتها، وبالتالي التقليل من رغبة شرائها. كما أن التجارة عبر الإنترنت تشكل عاملاً هاماً في خفض أسعار السلع فهي تعرض السلع بأسعار منخفضة جداً مما يدعم انكماش التجارة الواقعية اكثر فأكثر.
المراكز التجارية اصبحت تعاني اليوم من مجموعة من المشاكل جملة واحدة تتلخص في:
1 ـ انخفاض أرباحها
2 ـ تحول السلوك الإنساني وانخفاض الإقبال على الشراء
3 ـ انخفاض عدد المتسوقين.
ويعتقد البعض أن العالم أصبح في نهاية عصر تجاري بات من الضروري إعادة النظر فيه على الرغم من أن الحاصل اليوم هو استمرار الشركات المطورة في افتتاح المراكز التجارية هنا وهناك نظراً لأنها مازالت تدر عائداً معقولاً حتى يومنا هذا. إلا أن الشركات المطورة بدأت منذ فترة في البحث عن حلول جديدة لجذب المتسوقين ولمجابهة التحولات في السوق من خلال برامج مثل اضغط واستلم(clic & collect) وتعني أنك تختار عبر هاتفك الذكي مشترياتك ثم تذهب إلى السوق لإستلامها. إنها إحدى المحاولات التي تهدف إلى جذب جمهور مستخدمي الإنترنت إلى المراكز التجارية. في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وفي الإمارات العربية المتحدة كان التوجه ليس فقط التركيز على الجوانب الترفيهية بل إنشاء مراكز عملاقة من حيث الأنشطة الترفيهية وتنوعها ومن حيث عدد المحلات التجارية وهذا يعني جذب المتسوقين إلى فضاءات تلبي احتياجاتهم من المتعة والترفيه أولاً ثم يأتي توفير المحلات التجارية ثانياً. هذه الأفكار حملتها على مستوى العالم عدد من المراكز التجارية مثل مركز وست ادمنتون مول التجاري في كندا، هذا المركز الذي يستقبل سنوياً أكثر من 30 مليون زائر، هو الأول في العالم من حيث المساحة. هذا المركز ليس مركزاً تجارياً فقط بالرغم من تواجد الماركات العالمية، وليس مركز للترفيه بالرغم من وجود جزيرة جلاكسي الترفيهية لألعاب الأطفال أو المسبح العالمي الذي يحتوي على أكبر موجة مائية وأكبر بحيرة صناعية أو مركز التزلج على الجليد وأكبر ساحة سيكتنج مغطاة في العالم. كل شيئ في هذا المركز كبير جداً حيث بلغ دخله 17 مليار دولار في العشرين عاماً منذ إفتتاحه، والهدف هو أن يعيش زواره الحلم الأمريكي الذي تجلب فيه التقنية السعادة للبشرية خاصة الأطفال الذين يمكنهم زيارة حديقة الحيوان المجانية التي تضم حيوانات جميلة يمكن الإقتراب منها ومداعبتها. المركز لايتوقف عند تقديم خدمات ترفيهية دائمة للأطفال بل يحاول دائماً التجديد والإبتكار فيها لذلك سوف تجد الأطفال المنتشرين في هذا المركز وهم يدفعون بأبائهم وأمهاتهم الذين يحملون بطاقات إئتمانهم جاهزة للشراء. داخل المركز الذي يعتمد على فعاليات الجذب والإبهار في كل مكوناته حتى الفنادق والمطاعم و ديكورها الداخلي. في الولايات المتحدة هناك مول أمريكا الذي يقع في ضواحي مينيابوليس في ولاية مينسوتا و يعتبر وجهة السياح الثانية بعد مدينة لاس فيجاس، حيث بلغ زواره 42 مليون زائر سنوياً والذي لم ينجح في البداية حيث لم يهتم سكان المنطقة المحيطة بزيارته لأنه لم يكن يراعي رغبات هذه الفئة من الزوار ومن المراكز التجارية الكبرى في العالم يعتبر دبي مول من أكبر المراكز التجارية زيارة (75 مليو زائر في السنة) تبلغ مساحته 800 ألف مر مربع ويحتوي على 1200 محل ويعمل فيه 120 ألف موظف. وقد تم افتتاحه في عام 2008م ويضم أكبر الماركات التجارية ويقدم خليط من المنتجات العالية الجودة التي تجاورها منتجات عادية كما يعتمد دبي فيستفال سيتي على وسائل ترفيهية مثل البحيرة الصناعية الكبيرة ذات المياه المتحركة على أنغام الموسيقى وذات الإضاءة الملونة وترتفع المياه فيها إلى 275م. بالإضافة إلى الشلالات الصناعية وساحة التزلج والحوض البحري وقد بلغت تكلفة المجموع 218مليون دولار. يقع بجانب دبي مول مول الإمارات الذي يضم منطقة للتزلج على الجليد. ويغطي مول الإمارات مساحة 23 ألف متر مربع. ويستقبل سنوياً 40 مليون زائر ويعتبر أكثر المراكز التجارية عائداً. حيث يبلغ العائد على تأجير المحلات 3 أضعاف العائد المتعارف عليه عالمياً ولذلك يتسابق أصحاب المتاجر على التواجد في هذا المركز الذي أصبح لديه قائمة إنتظار كبيرة. ولايعتمد نجاح المراكز التجارية على مجهودات وإبتكارات واسثمارات للشركات المطورة بل يجب أن تهيء وتدعم السلطات المحلية توفير البيئة الجاذبة في المدن لكي يقبل الناس على المدن أولاً ثم يأتي دور هذه المرامز في جذب المستوقين. وهذا كما شاهدناه في دولة الإمارات التي نجحت فيها مراكزها التجارية نجاحاً كبيراِ. وعموماً نسعى الإمارات لتكون أكبر مركز تسوق في العالم، ففي أبوظبي هناك جزيرة ياس والملاعب المائية العالمية، وفي جزيرة السعديات هناك المتاحف العالمية (متحف اللوفر، متحف جوجنهايم ومتحف الشيخ زايد بالتعاون مع المتحف البريطاني ، كما يوجد مركز فيراري الترفيهي والذي يحتوي على أكبر حلبة سباق (فورمولا وان) كل هذه المشاريع السياحية والثقافية والترفيهية المبهرة التي تجذب السياح من أنحاء العالم ساهمت في إبراز المراكز التجارية في دولة الإمارات بالإضافة إلى عامل المناخ الصحراوي الحار الذي يجعل الزوار يفضلون التنزه داخل فضاءات مكيفة توفرها المراكز التجارية بجدارة. بشكل عام هذه الأمثلة العالمية ساعدت على تطوير وتحويل فضاءات الشراء إلى فضاءات ترفيهية ساعدتها كذلك
السياسة العامة للمدن والبلدان التي تقع فيها المراكز.
أحد المشاريع الحديثة للمراكز التجارية هو مشروع أوروبا سيتي (مساحة الموقع 80هكتار) الذي من المتوقع أن يبدأ تنفيذه في عام 2019م شمال مدينة باريس بالقرب من منطقة المطارات. جاءت فكرة المشروع لتحل بعض من المشاكل التي تواجهها المراكز التجارية اليوم من حيث عدم الإقبال عليها وانخفاض عائداتها. فالمشروع هو ملك لأحد أكبر شركات المراكز التجارية في فرنسا وعلى مستوى العالم . أوروبا سيتي يحاول استقطاب السكان في المنطقة المحيطة به، كذلك سكان باريس وفرنسا وأوروبا والسياح من مختلف دول العالم، ويعد أحد أهم مشاريع منطقة باريس الكبرى (مشروع تطوير منطقة باريس الجاري تنفيذه) ويتوقع أن يستقطب 37 ألف زائر سنوياً. الجديد في هذا المشروع بالإضافة إلى حجمه هو عمارته المميزة التي تراعي البيئة من حولها وتوفر أكبر قدر ممكن من فرص التسوق والترفيه، بل يتعدى ذلك إلى الجانب الثقافي، فالمشروع يحاول أن يعبر عن الهوية الأوروبية بمختلف مناطقها الجغرافية بإبراز العادات والتقاليد التسويقية لكل منطقة، وكذلك الترفيه والثقافة. نستعرض في هذا العدد مشروع أوروبا سيتي ومشروعات معاصرة أخرى للمراكز التجارية اختيرت لتميز تصميمها من قبل معماريين عالميين في أنحاء مختلفة من العالم.
إضافة تعليق جديد