إعداد : المهندس إبراهيم عبد الله أبا الخيل
في عام 1988م اكتشف باتريك شوماخر الطالب والمعماري المبتدئ فلسفة زها حديد الفنونية التصميمية التي تدعو إلى التخلي عن الخطوط التصميمية المعمارية المستقيمة والزوايا القائمة التي يستخدمها المعماريين في التصميم المعماري ، وتبني فلسفة جديدة تقوم أولاً على الترجمة المباشرة للخطوط المنحنية التي ترسم بها الإسكتشات المعمارية السريعة وتحويلها إلى رسومات معمارية تقرأ على أساس أنها هي الخطوط التصميمية التي سيتبعها تصميم المشروعات بدلاً من ترجمة خطوط الاسكتشات السريعة إلى خطوط مستقيمة وأقواس صحيحة اولا ثم تحويلها إلى رسومات معمارية. الأمر الثاني هو ان المساحات التي تنبع بين الخطوط المنحنية يمكن اعتبارها الفراغات المعمارية التي تحتوي على مكونات المباني وهي فراغات سائلة لاتفرض حواجز أو قواطع جدارية فيما بينها لفصل المكونات عن بعضها، ولكن تأتي المكونات لتتموضع داخل هذه الفراغات التي تحتويها الخطوط بطريقة تحدد مدى علاقة أو ارتباط كل مكون بباقي المكونات بطريقة سلسة ولينة، وإذا نظرت لهذه الأشكال من أي جهة ستجد أنها متناغمة مع بعضها بالرغم من ثراء وإختلاف أشكالها . الأمر الثالث هو ان زها حديد استطاعت إدخال الأشكال المائلة والمنحدرة في معجم التصميم المعماري.
لكن ما هي هذه العمارة الجديدة و ماذا يطلق عليها ؟ باتريك شوماخر يطلق عليها Parametric Architecture أو عمارة المحددات اللوغارتيمية ( العمارة البارامترية) وكان شوماخر أول من أطلق اسم Parametricism على هذا التوجه المعماري في عام 2008م قبل أن يصبح توجهاً عالمياً وينتشر في أنحاء مختلفة من العالم.
في البداية كان التصميم المعماري في مكتب زها حديد يبدأ على هيئة اسكتشات معمارية كانت تبدو كلوحات فنية ثم يتم تحويلها إلى رسومات معمارية بدون استخدام الكمبيوتر حيث كانت خطوط التصميم ماتزال مستقيمة ولكن بزاوية غير قائمة وكتل معمارية مائلة و ربما ذات أسطح منحدرة . ثم بدأت الخطوط التصميمية في وسط التسعينيات تلين وتأخذ إنحناءات سلسلة ، خاصة مع التعمق في استعمال الكمبيوتر في التصميم وتطبيق المحددات اللوغريتمية عليه، على أن الأمر استغرق ما يقارب العشر سنوات من المشاركات الخاسرة في المسابقات المعمارية وفي محاولة إقناع الآخرين بهذا التوجه الجديد . ثم بدأ المكتب يفوز بالمسابقات واحدة تلو الأخرى مع نهاية التسعينيات، حتى فاز بأحد أهم مشاريعه وهو متحف ماكسي (MAXI) للفن المعاصر في روما, ثم فاز المكتب بمشروع شركة فولكس فاجن ، وبدأت الخطوط التصميمية تصبح أكثر سلاسة وأناقة سواء من الخارج أو الداخل ، وبدأت المشاريع تكون أكبر فأكبر، مثل مشروع أوبرا الصين , وبدأت تتنوع وظائف المباني التي يصممها المكتب، وعمل المكتب على تصميم قطع الأثاث والتصميم الداخلي والإنارة والملبوسات والمركبات . كما قام المكتب بتطبيق فلسفته التصميمية على مشاريع تخطيط المدن وتحول عدد موظفي المكتب من 4 إلى 400 موظف.
وفي كتابه حول العمارة The Autopoesis of Architecture يحاول شوماخر شرح نظريته المعمارية البارامترية والذي استغرق كتابته 15 عاماً ويتكون من ألف ومائتي صفحة. ويرى شوماخر أن العمارة البارامترية استطاعت دمج كل العناصر المعمارية وحولتها إلى عناصر أو محددات لوغارتيمية سهلة التحويل والتشكيل الأمر الذي يساعد على تقوية العلاقات بين مكونات وأشكال المشروع وعلاقة المبنى بمحيطه والتحول عن النماذج الهندسية الكلاسيكية (المكعب، الاسطوانة، الهرم، الكرة) التي أعتمد عليها التشكيل المعماري الكلاسيكي والحديث . هذه الأشكال ، كما يرى شوماخر ، إذا جمعت بين بعضها البعض لتكوين التشكيل النهائي المعماري للمباني لا تحقق علاقات تشكيلية قوية فيما بينها ، بل تخلق غوغائية معمارية وعمرانية حيث أنها تتجمع فيما بينها بدون لغة توحدها .
وفي المقابل هناك أشكال أكثر تقارباً بين بعضها تولد تجمعات متناغمة فيما بينها وهي الأشكال التي تحققها العمارة البارامترية. كما ان الخطوط التي ترسم بها الأشكال الهندسية الكلاسيكية هي خطوط غيرمرنة فإن الخطوط التصميمية في مجال العمارة البارامترية هي خطوط مرنة سهلة وسلسة ويمكنها أن تشكل كتل لينة و مختلفة ولكن دائماً ما يوجد ترابط قوي بينها. الخطوط هنا تحدد مسطحات يمكن طيها وتحويرها وإيجاد تنوع في تشكيلها بحيث يمكن أن تشكل قطع أثاث أو مباني. كما تشكل المسطحات فيما بينها كتل يمكن كذلك تجميعها فيما بينها ودمجها في كتلة واحدة من خلال خطوطها السائلة .
وكذلك على صعيد تخطيط المدينة وتحديد كثافاتها وأحجامها وتشكيل أحيائها وخطوط شبكات طرقها تكون هناك سيولة وسلاسة في تشكيل المدينة وتحقيق تنوع في أشكالها دون المساس بترابطها فيما بينها.
إن كل الأبحاث والمشاريع التي يتم تصميمها داخل المدارس المعمارية والتي تنتهج العمارة البارامترية يبدو فيها الترابط بين مكوناتها بحيث تتشابه فيما بينها بالرغم من تنوع وظائفها وأحجامها كونها مصممة من قبل معماريين مختلفين إلا أنها تتبع مبادئ واحدة.
تعتمد العمارة البارامترية على مبادئ بعضها يمكن أن نطلق عليه مبادئ سلبية أي يجب تجنبها ومبادئ إيجابية يجب إتباعها .
وتتلخص المبادئ السلبية في : رفض المبادئ التقليدية مثل تصميم الأشكال الكلاسيكية ذات البنى الغير مرنة ومثل التكرار أو التناظر في الشكال و مثل جمع أشكال متنافرة فيما بينها ولذلك تدعو العمارة البارامترية إلى الإستلهام من الأشكال العضوية الطبيعية ، أحد الرواد في هذا المجال هو المهندس الإنشائي والمعماري فراي اوتو الذي استعمل عمارة الخيام في مشاريعه من خلال استخدام أشكال تثبت إنشائياً بطريقة طبيعية كما هو الحال في الأشكال الطبيعية . فراي اوتو لم يستخدم الكمبيوتر وإنما كان يقوم بعمل تجارب على نماذج مصغرة للخيام. أما اليوم ومن خلال استعمال البرامج اللوغرتيمية الرقمية يمكن إيجاد الأشكال التي تشبه الأشكال العضوية الطبيعية وجعلها تثبت إنشائياً من خلال الحسابات الإنشائية الرقمية .
في الأبحاث التي أجراها شوماخر في مدرسة جمعية العمارة البريطانية كان يقوم بنقل الأشكال العضوية الطبيعية ثم يتم تحويرها وتشكيلها من جديد من خلال التصميم البارامتري .
المبادئ الإيجابية :
يجب أن تكون الكتل لينة ذات سيولة قابلة للتشكيل بسهولة كما يجب أن تكون ذات ذكاء تشكيلي أي أنها تتبع محددات ذكية مثل خصائص المواد التي سوف تستخدم في التشكيل والقياسات والقواعد الإنشائية التي يجب إحترامها بحيث تضمن ان أي حل سنختاره سيحافظ على هذه الخصائص والقياسات والقواعد ، ويمكن إضافة محددات أخرى مثل طرق التصنيع والكثير من المحددات الأخرى . كما يجب أن يكون هناك تميز بين الأشكال لكنه يحافظ على تماسك التكوينات فيما بينها هذا التميز يمكن كذلك أن يكون ذكياً أي أنه قابل للتطويع لتحقيق محددات معينة يجب إتباعها مثل تشكيل كتلة المشروع لكي تتجنب الفتحات أشعة الشمس وعلاقة ذلك بهندسة كاسرات الشمس والفتحات ، وهذا يؤدي إلى تميز الكتل والمسطحات والخطوط.
ويرى شوماخر كذلك إننا نحتاج إلى التميز من حيث المعايير التعبيرية والجمالية ولأن هذه المعايير تعبر كذلك عن أسلوب حياة المجتمع الحالي الذي يفضل أفراده التميز وليس التكرار. هذا التميز تحتاجه كذلك مشاريع تخطيط المدن لعرض أكبر قدر من الحلول التخطيطية. التميز يمكن أن يكون ذكياً أي بهدف معين أو أن يكون بدون هدف إلا من اجل التميز فقط بحيث يتناسب مع الرغبات المختلفة لسكان المدينة . كما يجب أن يكون هناك علاقات متبادلة بين عناصر التكوين ، فالمدن والمباني تصمم من خلال أنظمة تسلسلية هناك نظام أولي ثم يتبعه نظام ثانوي مثل نظام كتلة المبنى ثم نظام تصميم الفتحات وكلها يجب أن تبنى بمراعاة علاقات متبادلة بينها. فإذا أجرى تعديل على تصميم كتلة المبنى فإن ذلك يرتد على تصميم الفتحات وهكذا. كل المبادئ سواء السلبية منها أو الإيجابية يجب أن يستخدمها المعماري في مراجعة تصميمه والتأكد من أنها تحقق هذه العلاقات المتبادلة.
في هذا العدد نستعرض عدد من مشاريع مكتب زها حديد الذي يرأسه اليوم المعماري الدكتور باتريك شوماخر، هذه المشاريع إسترشد بها المعماري شوماخر في العديد من محاضراته وخاصة في محاضرته في الرياض في اكتوبر الماضي ، ليشرح بها نظريته المعمارية القائمة على مبادئ العمارة البارامترية ، تلك العمارة الرقمية التي تتبع محددات لوغارتيمية في تشكيلها . فمشروع الساحة االثقافية في أحد أحياء مدينة سيئول الكورية يتميز بتصميم متماسك يجمع بين تنسيق الموقع ومباني المشروع في تشكيلات متناغمة فيما بينها مرتبطة في فضاءاتها من خلال علاقات سائلة لينة بين مكوناتها بالرغم من تنوع شكل كل مكون يعتمد التعبير على خطوط استلهمت من طبيعة البيئة الجغرافية لكوريا واستخدام مفردات وألوان تنبع من التراث الكوري المعماري وتنسيق المواقع ، كما غطيت المباني بغلاف ذو تشكيلات منحنية حرة صنع من وحدات تغطية معدنية بعضها مصمت وبعضها ذو ثقوب توفر الإضاءة الطبيعية داخل المشروع وتقع خلفها النوافذ الزجاجية ، وحدات التغطية ليست وحدات متكررة ولكنها تتبع شبكة مكونة من خطوط الفواصل بين الوحدات وتتبع الشكل المنحني الحر للغلاف . الشبكة تمثل عنصر الترابط بين الوحدات ذات المساحات المتنوعة حسب موقعها في الشبكة . المشروع الثاني هو المطار الجديد لبكين في الصين، يتمتع هذا المشروع بغطاء ذو تشكيل سائل هيكله الإنشائي يجمع في شكل واحد السقف ونقاط إرتكازه ، ولولا استخدام التصميم البارامتري لكان من الصعب رسم وحساب الأعصاب المعدنية المكونة للهيكل، كونها ذات ابعاد غير متكرارة . المشروع الثالث هو مشروع مركز الملك عبد الله للبحوث والدراسات البترولية الذي أفتتح مؤخراً في العاصمة الرياض. التصميم هنا يتبع تشكيل عضوي مكون من خلايا ذات أشكال هندسية سداسية ، الخلايا ذات وحدات غير متكررة إنما تتحد مساحاتها وأحجامها وأبعادها من حيث المكونات التي تتضمنها كل خلية وموقعها من التكوين ويطلق عليه المصمم المجمع أي المجمع المكون من الخلايا السداسية. هنا لايوجد تكرار في الأشكال ولكن هناك ترابط قوي بينهما وعلاقات متبادلة تحدد في إطارها أشكال الخلايا والتي تحافظ على كونها خلايا سداسية. أحد التفاصيل في هذا المشروع هي الطريقة التي صممت بها فتحات الأفنية الداخلية والتي صممت لتوجيه الهواء إلى داخل الأفنية لتحسين مناخها الداخلي ولتشكل مناطق وسطية من حيث المناخ بين الداخل والخارج . المشروع الرابع هو مشروع البنك المركزي في بغداد والمشروع يتميز بتصميم واجهات ذات خطوط سائلة ورأسية تم رسمها تبعاً للحماية من أشعة الشمس وتوفير الإضاءة الطبيعية في المبنى . المشروع الخامس هو مشروع تطوير عقاري صمم بخطوط منحنية ومساحات حرة داخلية وأشكال كروية . المشروع يتمتع من الداخل بسيولة فراغية وترابط فراغي يسمح دائماً للمتجول داخله التعرف على هندسة المشروع ومكوناته. التشكيل العام الخارجي للمشروع يتبع تشكيل برامتري مستوحى من الأشكال الطبيعية الشبه كروية والعلاقات الفراغية فيما بينها . المشروع السادس فهو كذلك مشروع تطوير عقاري مكتبي ، هنا تتبع وتوجه خطوط التصميم حركة المشاة وحركة الوصول إلى المباني مع تناغم كتل المبنى مع تصميم الحدائق ، بينما قسم المشروع إلى ثلاث أبراج ذات تشكيل حر على هيئة أقواس ويهدف تقسيمها إلى 3 أبراج تقليل ضخامة المشروع في حالة تصميمه كبرج واحد. المشروع الأخير هو مشروع لفندق أسيوي، المشروع يتميز بشبكة أعصاب إنشائية ذات تشكيل حر تغلف الشكل ا المتوازي الأضلاع للفندق والذي تم عمل فتحات كبيرة منحنية في وسطه تسمح بإضاءة فناءه الداخلي المغطى ، يتميز المشروع بواجهاته وبتغطيتاته الداخلية حيث يبدو الترابط بين الداخل والخارج من خلال تصميهما المتشابه ولكن بدون تكرار في تفاصيله . من أهم تفاصيل هذا المشروع تلك التفاصيل الإنشائية بين أعصاب الهيكل الإنشائي الخارجية ومسطحات الواجهات الزجاجية التي من خلفه والتي هي كذلك تتبع إنحناءات أعصاب الهيكل الإنشائي.
إضافة تعليق جديد