إعداد : المهندس إبراهيم عبد الله أبا الخيل
شكلت واجهات المباني على مر الزمن مجالاً واسعاً للتطوير والبحث فتارة يتبنى المعماريون زخرفتها وتارة يقومون بتجريدها تماما.
في العصور التاريخية القديمة كان تصميم المباني يركز على الواجهات ويهتم بزخرفتها ثم تغير الأمر فتم التركيز على المساقط أولاً خاصة بعد إستحداث التعليم المعماري.
ومع التوجهات المعمارية الحديثة أي منذ بداية القرن العشرين جردت الواجهات تماماً من الزخارف حيث ساد الإعتقاد المعماري بالتركيز على حل مشاكل تصميم مختلفة إعتبرت أهم من زخرفة الواجهات . وتركز الإهتمام على تحرير الواجهات بإلغاء دورها الإنشائي والبيئي؛ فانفصلت الواجهات عن النظام الإنشائى وتم إبتكار واجهات حديثة هى الواجهات الستائرية (Curtain Wall) وتم الإعتماد على التقنيات الحديثة من وسائل تكييف وتدفئة . وتحول التقييم الجمالي للواجهات الذي كان يعتمد على الزخرفة الفنية إلى الإعتماد على الحلول الإقتصادية والتقنية والثقافية والبيئية لتصميم الواجهات ، بحيث أصبح ينظر إلى الحوائط الخارجية للمباني ليس على أنها واجهات المباني وإنما على أنها الغلاف الخارجى لها .
في السبعينيات الميلادية أدرك العالم أنه يواجه مشاكل إقتصادية وبيئية كبيرة تكمن في إرتفاع أسعار الطاقة وضرورة البحث عن حلول فعالة لتوفير إستهلاكها في المباني وضرورة المحافظة على البيئة ، الأمر الذي أدى إعادة النظر في المباني بشكل عام وفي الواجهات بشكل خاص كونها تمثل الغلاف الخارجي للمباني ، فظهرت الواجهات المزدوجة مثل تلك التي تتكون من واجهة زجاجية وأخرى تحمي الأولى من أشعة الشمس كما ظهرت الواجهات المزروعة بدافع زيادة الرقعة المساحية الخضراء في المدن بالإضافة إلى دورها العازل للحرارة وتحسين وسائل العزل المختلفة .
اليوم تمر الواجهات بمرحلة جديدة تتعايش فيها كل الحلول التصميمية المتاحة جنباً إلى جنب الزخرفية أو الوظيفية أو البيئية التي يتبنها المعماريين كل حسب موقفه من العمارة ويرجع ذلك إلى الثورة التقنية التي سمحت للمعماريين تحقيق كل الأفكار التصميمية سواء على مستوى أنظمة أو مواد البناء. فهناك الواجهات المتحركة التي يمكن تحريك عناصرها حسب إتجهات الشمس وهناك المواد التي يمكن أن تغير من طبيعتها بهدف تحسين عزل المباني بالإضافة إلى إستخدام تقنيات مثل إضاءة الواجهات بنظام ( LED ) والمواد الخفيفة الشفافة والعازلة في آن واحد ( ETFE ) والقائمة تزداد يوما بعد يوم . الأمر الذي دفع إلى إمكانية تحقيق الواجهات لعدد كبير من الوظائف في آن واحد وهو فى حد ذاته توجه إقتصادي ناجح مثل :-
– الحماية من السلبيات البيئية المحيطة : ويتضمن ذلك العزل الحراري والصوتي والرياح والأمطار والتلوثات المختلفة
– الربط أو العزل بين الداخل والخارج : وتتضمن توفير الإضاءة والتهوية الطبيعية والإطلالة على الخارج والعيش في البيئة الطبيعية والتواصل بين السكان كما يمكن أن توفر الخصوصية البصرية والصوتية عند الحاجة .
– التعبير عن وظيفة المبنى : في التاريخ القديم كانت واجهات المباني تتشابه بالرغم من إختلاف وظائفها ، إنتبه المصممين لهذه المشكلة وبدأت الواجهات تعبر عن وظيفة أو وظائف المبنى وتطور هذا التوجه بحيث أصبح اليوم مطلباً أساسياً في التصميم .
– تحقيق عامل الجذب: هناك مباني تحتاج إلى أن تكون بمظهر أو بتشكيلات تجذب الجمهور إليها مثل المباني التجارية أو الترفيهية أو الثقافية مثل أن تكون الواجهات شفافة تماماً لتسمح بالتعرف على ما بداخلها من محلات تجارية أو ترفيهية أو يمكن أن تكون واجهات لمكتبات عامة أو متاحف تهدف إلى جذب المارة ورفع المستوى المعرفي والثقافي للسكان .
– تميز المبنى : هناك مباني ذات وظائف سامية أو هامة مثل المباني الدينية أو ذات الوظائف الوطنية أو أن تكون بحاجة إلى أن تميز نفسها فى المنطقة التي تقع فيها أو أن تتميز عن المباني المحيطة .
المشروعات التي يستعرضها العدد :
في هذا العدد نستعرض عدد من المشاريع المكتبية الحديثة لمكاتب معمارية عالمية وإذا كنا قد تناولناها من حيث الأفكار التصميمية المختلفة التي تتضمنها إلا أننا في هذه المقدمة نريد أن نركز على تصميم واجهاتها ، وهذا لن يلغي إستعراضنا للأفكار المعمارية للمشاريع لأن الواجهات هي أول وأكثر العناصر المعمارية تعبيراً عنها .
المشروع الأول هو برج مكتبي في مدينة مارسيليا الفرنسية من تصميم المعماري جان نوفل . التصميم يركز على الجوانب الفنية الجمالية أولاً بهدف تمييز البرج عن الأبراج التي بدأت تظهر فى سماء المدينة ويستلهم تصميم واجهاته من الرموز الوطنية الفرنسية فأطلق على البرج إسم المارسييز وهو النشيد الوطني الفرنسي الحالي وكانت مارسيليا أول مدينة تغنت به أبان الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الميلادي . كما إستخدم المصمم ألوان العلم الفرنسي ( الأحمر والأبيض والأزرق ) بطريقة مدرجة في واجهات البرج .
المشروع الثاني هو مشروع مقر شركة الطاقة الكورية لمكتب (BIG) تصميم المشروع يتبنى حلاً فنياً جمالياً كذلك . فمن خلال عملية نحتية لواجهات برجين متجاورين يمكن النظر إليهما على أنهما في الأصل كانا عبارة عن كتل لمستطيلات متوازية الأضلاع ذات خطوط إنسيابية رأسية وبعملية تشكيل نحتي تم عمل نتوؤات وشطفات منحنية في الكتل تتبعها الخطوط الرأسية لتحقق المظهر الإنسيابي السائل للواجهات ، بينما تعمل الشطفات والنتوؤات على عمل فتحات واسعة تسمح بتوفير إطلالة خارجية وإضاءة وتهوية طبيعية للمساحات التي تخدمها.
المشروع الثالث هو مشروع متعدد الإستعمالات لمكتب
(Foster & Partner) . يتكون من برجين وفضاءات عامة على مستوى الدور الأرضي . بشكل عام تتميز عمارة هذا المكتب بالحلول التقنية والتي تظهر بها الواجهات ، فتصميمها هنا ليس فنياً جمالياً بل يتبع الحل التقني الذي يهتم بتحقيق النواحي البيئية . ولذلك تبدو الواجهات المزدوجة في الواجهات التي تتعرض لأشعة الشمس بينما الواجهات الأخرى تركت زجاجية نصف شفافة.
المشروع الرابع هو برج مكتبي من تصميم مكتب (Arquitectonica) . المشروع عبارة عن كتل على هيئة شرائح متلاصقة فيما بينها ولكنها ليست كتل مستقيمة بل تنحرف عن القائمة كما تم تصغير مساحتها في وسطها. الهيئة العامة للبرج تبدو ديناميكية وتميز البرج عن الأبراج المجاورة . واجهات المشروع زجاجية نصف شفافة بحيث تظهر كتل البرج المتلاصقة شبه مصمتة .
المشروع الخامس هو مبنى للأبحاث والتطوير لمجموعة تنتج منسوجات من النايلون ومنتجات أخرى مختلفة من تصميم مكتب (Morphosis). تعبر الواجهة الرئيسية في المشروع عن وظيفة المجموعة حيث أنها واجهة مزدوجة وتتكون من واجهة زجاجية تحميها واجهة مكونة من وحدات تم تصنيعها في المجموعة بحيث تسمح الواجهة بعرض منتجات المجموعة عليها ولتظهر مدى صلابة وتحمل هذه المنتجات للعوامل الخارجية المختلفة. المشروع السادس هو مبنى يعرض مساحات مكتبية للإيجار من تصميم مكتب لمعماري بدء يذيع صيته في الأوساط المعمارية العالمية وهو المعماري كريستيان كيريز. وتتميز عمارته بالتصميم التجريدي للمباني إلى أبعد الحدود. الفكرة المعمارية هنا تحاول أن تربط الخارج بالداخل من خلال تجريد الحوائط الخارجية للمبنى التي وضعت خلف الأعمدة لتصبح بمظهر واحد من الداخل والخارج، كما تظهر شبكات الأعمدة في الخارج والداخل في آن واحد تعبيراً عن إستمرارية الشبكة خارج حدود إطار المبنى ، كل ذلك يتم فقط من خلال توظيف نظام إنشائي مبسط (شبكة أعمدة نمطية، حوائط حرة تركت كلها عارية بدون أي تغطيات خارجية) . يتم التنوع الشكلي من خلال تغيير الخلطات الخرسانية والنظام البنائي الإنشائي للهيكل بحيث يحقق حل إنشائي وإقتصادي للمبنى .
إضافة تعليق جديد