Building with Green
إعداد : م . إبراهيم أبا الخيل
للبيئة الخضراء تأثير نفسي إيجابي على الإنسان ، فعادة الإطباء النفسيون ينصحون مرضاهم بالعيش في الطبيعة الخضراء. وهذا ليس بغريب فالبيئات الطبيعية الخضراء تحتوي على النباتات والطيور والمسطحات وقنوات مياه وهي كلها لا تمثل خطراً على الأنسان بل على العكس يأنس ويطمئن الإنسان بالعيش بينها ويتغنى بتغريد الطيور وخرير الماء وجمال وتنوع ألوان النباتات ورائحة أزهارها وتنوع فواكهها وخضرواتها وأعشابها التي توفر لنا كذلك الغذاء والدواء، والبيئة الصحية من الهواء النقي والعليل والظلال والحماية من العوامل البيئية القاسية مثل الرياح الشديدة فلماذا لا يكون لها تأثيرها الإيجابي على نفسية الإنسان والشعور بالأمان مع توفر الطعام والحماية من البيئة القاسية. وفي المقابل فإن للبيئة المبنية تأثير نفسي سلبي على نفسية الإنسان فالغابات الخضراء إستبدلت في المدينة الحديثة بغابات من المباني الخرسانية وبدلاً من تغريد الطيور هناك ضوضاء الحركة المرورية وبدلاً من إستنشاق رائحة الزهور والهواء النقي هناك إستنشاق للهواء الملوث بعادم السيارات وغاز ثاني أوكسيد الكربون والتلوثات المختلفة الناتجة عن زيادة السكان وزيادة نفايتهم
داخل المدن .
في الماضي عاش الإنسان ولمئات السنين في كنف الطبيعة الخضراء وإرتبط بها معنوياً ومادياً فالمدن المكتظة بالمباني والسكان لم تظهر إلا مؤخراً في النصف الثاني من بداية القرن التاسع عشر الميلادي ومع ما يعرف بعصر الثورة الصناعية فقبل ذلك كان الإنسان يعيش وسط الغابات والحقول ولم تكن المدن قد أخذت هذا الحجم التوسعي الكبير الذي أصبحت عليه اليوم ولذلك تمثل للبيئة الطبيعية في ذهن الأنسان أهمية خاصة. ولقد ظهرت في بداية عصر الثورة الصناعية أفكار تخطيطية تؤكد على تمسك الإنسان بالطبيعة مثل المدن الحدائقية لإبنزير هاورد 1898م في بريطانيا ولكن هذه الأفكار لم تصمد طويلاً أمام الكثافة السكانية المتزايدة لسكان المدن وإرتفاع أسعار الأراضي ممادفع إلى زيادة الكثافة البنائية وعدم توفر الأراضي اللازمة لتطوير الفضاءات الخضراء داخل المدن، وبذلك
أدت كثافة المباني إلى إنحسار الطبيعة الخضراء في المدن وإنفصال الإنسان عن بيئته الطبيعية التي عاش فيها لقرون طويلة وإرتبط بها مادياً ومعنوياً.
في هذه المدن اختفت التربة الطبيعية تحت طبقات أسفلت طرق السيارات وأرصفة المشاة وامتد عمران المدن ليحل محل الغابات والحقول الزراعية ليبعد الإنسان عن الطبيعة الخضراء ومع التطور الإقتصادي ارتفعت أسعار الأراضي داخل المدن ، الأمر الذي أدى بدوره إلى القضاء تماما على المساحات والفضاءات المتاحة وإمكانية تحويل جزء منها إلى ساحات وحدائق طبيعية.
والرغم من العديد من المحاولات للمحافظة على الطبيعة الخضراء داخل المدن إلاّ أن هذا لم يمنع من زيادة الكثافة البنائية داخل المدن، حتى بدأ الإنسان يستشعر خطر تلوث البيئة المبنية وتأثيرها السلبي على المناخ وضرورة إعادة النظر في التدهور الحاصل لها وضرورة توفير حلول جديدة للتقليل من مخاطر وأضرار التلوثات المختلفة التي لا تؤثر فقط على صحة الإنسان بل كذلك على حالته النفسية .
لذلك كان من البديهي أن تأتي الطبيعة الخضراء في مقدمة هذه الحلول لثأثيراتها الإيجابية المتعددة على صحة ونفسية الإنسان .
لقد أصبح التوجه اليوم هو تحويل المدن إلى حدائق كبرى للرجوع إلى تلك العلاقة الحميمة والضرورية بين الإنسان والنبات . لكن ليس بالشكل الذي كانت عليه في السابق أي أن يعيش الإنسان وسط الغابات والحقول لأن ذلك لم يعد ممكناً لأن الحضارات الإنسانية اليوم لا تستطيع أن تتخلى بعد عن نموذج المدينة الحديثة ونظامها الإقتصادي، ولكن من خلال وسائل إبداعية جديدة تجمع بين العلوم والتقنيات الحديثة الزراعية .
أحد الأفكار الجديدة هي زراعة الحوائط والتي إبتكرها عالم النبات الفرنسي Patrick Blanc حيث قام بإبتكار نظام لزراعة النباتات وتغطية حوائط المباني بها.
فكرة الحائط الزراعي فكرة تكمن في إختيار نباتات تساعد على تقليل الصيانة وإلا إرتفعت تكاليف الجدار الزراعي وعادة يجب أن تكون الصيانة مرتين في السنة
الحائط الزراعي قد لا يكون أكثر عزلاً من العوازل الصناعية للمبنى إلا أنه له تأثيره الإيجابي على نفسية السكان سواء كان داخل المبنى أو خارجه، كما أنه يساعد على تلطيف حدة حرارة الهواء في الفضاءات الخارجية القريبة والمحيطة بالمبانى ( ممرات خارجية ، ساحات خارجية ، أفنية داخلية ) .
ومن الجدير بالذكر أن Blanc شارك في زراعة أحد أسطح المشروعات الحديثة في الرياض ومن أفكاره الجديدة التي يسعى لتحقيقها تماشياً مع الإتجهات المعمارية ( الربط بين الداخل والخارج ) هي كيف نحقق بالحائط الزراعي ( بمعنى أن يكون جزء من الجدار في الخارج والجزء الأخر في الداخل ) العلاقة المعمارية بين الداخل والخارج لأن الجدار الزراعي في الخارج سيكون مزروع بنباتات خارجية تحتاج إلى الضوء والهواء بينما التي في الداخل فإنها تتعايش مع الظلال ( نباتات الظل ) وقلة حركة الهواء .
كما انتشرت زراعة أسطح المباني في المدن وإرتفعت الأشجار فوقها بهدف زيادة الرقعة الزراعية فيها ومن روادها المخطط و المعماري Stefano Boeri الذي صمم مشروع الغابة الرئسية وهو مشروع يتكون من برجين تم زراعة شرفاتها بالأشجار .
كما بدأت تظهر أنظمة زراعية ذات تقنيات جديدة
مثل استعمال الأنظمة الزراعية المائية (Hydroponic System) وهي الزراعة بدون تربة بل بغمر الجذور في الماء وظهرت مشروعات القرى الزراعية الرأسية وأصبحت ضرورة للمدن في الألفية الثانية حيث يتم زراعة مايحتاجه سكان المدن من خضروات وبحيث يمكن أن تصل إليهم وهي مازالت ناضرة لم تفقد من فوائدها الغذائية .
المشروعات التي يستعرضها العدد :
في هذا العدد نستعرض 5 مشروعات مكونة من
3 متاحف ومشروعين سكنيين من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والدنمارك وسنغافورا والمكسيك، تهدف تصاميم هذه المشروعات إلى استعمال الطبيعة الخضراء في المباني وبالتالي في المدن وتستعملها ليس فقط من حيث تأثيرها النفسي على الإنسان ولكن تتعامل معها كعنصر بنائي يعبر تارة عن وظيفة المبنى وتارة كوسيلة لحماية البيئة المحيطة وتلطيف مناخها.
المشروع الأول هو متحف فنون الشعوب الأفريقية والأسترالية والأمريكية في باريس (٢٠٠٦م) من تصميم Ateliers Jean Nouvel وهو متحف مخصص لعرض الفنون البدائية للشعوب التي كانت تعيش في الغابات الكبري العالمية في أفريقيا وأستراليا والأمريكيتين وهو ما حاول التصميم تحقيقه بنقلنا إلى الأجواء التي كانت تعيش فيها تلك الشعوب في تلك الغابات من خلال تغطية الموقع كله بالأشجار والأعشاب وحتى تم تغطية جزء رأسي من الحائط الخارجي للمشروع بالنباتات ، كما قسمت واجهات المبنى الرئيس من الخارج على شكل مكعبات وكأنها قطع فنية تم صبغها بألوان مستوحاة من الصبغات الطبيعية التي إستخدمتها الشعوب في قطعها الفنية التي يعرضها المتحف فاللون البني يذكرنا بلون الخشب بينما الأحمر والأصفر الداكن تذكرنا بألوان الأزهار ، و يتكرر هذا الأسلوب في تفاصيل المبنى في التغطيات ؛ فالسطح مغطى بقطع حجرية قطعت بأشكال عشوائية توحي بطرق البناء البدائي وكذلك الحال بالنسبة للسواتر والحواجز التى صممت بأشكال مستوحاة من العمارة البدائية لتلك الشعوب . وإذا كانت الفكرة المعمارية تحاول أن تجعل الزائر يعيش في البيئة التي كانت تعيش فيها تلك الشعوب بحيث ينسى أنه يعيش في وسط مدينة حديثة إلا أن المشروع لا يخلو من العلوم والتقنيات المتقدمة فبالإضافة إلى إستخدام الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة وتحقيق إنارة تبرز القطع الفنية ، تم إستدعاء عالم النباتات Patrick Blanc لإختيار نباتات الحديقة التي تغطي كامل موقع الأرض بحيث تنموبالرغم من وجود مباني تمر فوقها تحرمها من الشمس وربما التهوية المناسبة، كما ساعد عالم النبات في تغطية حائط في المبنى بالنباتات واختيارها بحيث تكون لها إستمرارية وصيانة إقتصادية، وبالمناسبة فلقد كان يعتبر في عام ٢٠٠٦م أول حائط يتم تغطيته بالنباتات بالطرق الحديثة .
المشروع الثاني من تصميم مكتب Henning Larsen Architects هو كذلك مشروع متحف للأثار يتميز بسطح سقفه المائل إلى الأخضر الذي يمكن الصعود عليه والذي اعتبرت فكرته عند بنائه في ٢٠١٣ م إحدى الأفكار المعمارية المتقدمة التي تحقق معايير الإستدامة . التصميم يستغل إنحدار الأرض فينطلق سقفه من مستوي الدور الأرضي في الجهة المنخفضة منها ليرتفع ٣ أدوار فوق سطح الأرض . زرع سطح السقف بالأعشاب الخضراء ليدمج مع محيطه تماماً وبحيث يبدو المبنى كجزء من الموقع ويرتفع كأنه تلة من التلال الطبيعية المحيطه وكأنه قطعة من مدينة من المدن الأثرية المنسية التى ظهرت فوق الأرض. ميول السطح يسمح لمرتادي المتحف الأرتقاء عليها كفضاء عام وكذلك التمتع بالجلوس فيه والإطلالة على البحر ومحيطه .
المشروع الثالث هو لأكاديمية كالفورنيا للعلوم الطبيعية من تصميم مكتب Renzo Piano Building Workshop with Stantec Architecture وهو مشروع لمبنى تعليمي وبحثي بالإضافة إلى إحتوائه على متحف للبيئات الطبيعية جمعت كل فعاليات الأكاديمية تحت سقف واحد تم تغطية سطحه بالأعشاب بينما تبرز من السطح قباب وتموجات تعبر عن أحجام الأستعمالات تحت السقف المبني. يتسم التصميم بتقنياته العالية كونه يجب أن يصنع عدد من الأنظمة البيئية وعرضها على الزوار الأمر الذي يحتاج إلى صنع مناخات مختلفة من تهوية وإضاءة طبيعية يمكن أن تتعايش داخلها مكونات كل نظام بيئي طبيعي من حيوانات ونباتات . حتي زراعة سطح سقف المبنى الذي يهدف إلى عزل السقف والمبنى من تحته حرارياً تتطلب تصميم أحواض زراعية ذات سماكات صغيرة مصنوعة من مواد طبيعية لا تتحلل مع مرور الزمن وإستعمال تقنيات زراعية متقدمة تسمح بزراعة النبات في حجم صغير من التربة الزراعية وبالتالى يخفف من وزنها على الهيكل الإنشائي .
المشروع الرابع هو مشروع إسكان حكومي للكبار السن في سنغافورا ومصممه مكتب WOHA . يركز هذا المكتب في تصاميمه دائماً تحقيق معايير الإستدامة المختلفة ومنها دمج النباتات في عمارة مبانيه بحيث يحقق التوجه إلى إعادة الطبيعة الخضراء إلى المدينة كما أن مشاريعه تتميز عن غيره بتصميم ذات زراعات كثيفة وأشجار عالية لا نجدها في المشروعات المماثلة، ما يلفت النظر في هذا المشروع هو تأثره إلى حد كبير بعمارة حدائق بابل المعلقة من خلال الرسومات المتخيلة لها . الحدائق المعلقة في هذا المشروع تأتي كأحد مكونات التصميم الذي تأتي مع عدد من المعايير الأخرى مثل جمع الخدمات التي يحتاجها السكان من محلات تجارية وخدمات صحية وترفيهية في مبنى واحد مع المساكن بهدف التقليل من إستعمال وسائل النقل والتقليل من إنبعاثات الكربون وتوفير مقياس إنساني لحركة الإنسان وتقريب الطبيعة الخضراء منه . ما يميز المشروع من الناحية المعمارية والجمالية هي البراعة في تحقيق حدائق غناء متكاملة بأعشابها وشجيراتها وإشجارها العالية وزهورها .
المشروع الخامس هو مشروع مبنى سكني ذي نوعية عالية يتكون من 5 شقق تتراواح مساحتاه بين 500 إلى 700 م2 ، بالإضافة إلى مواقف السيارات ومدخل وبهو كبير. يتميز التصميم بشرفات رحبة واسعة زرعت مساحات منها بحيث توفر حديقة لكل شقة تحقق للشقق مميزات الفيلا الخاصة من فضاءات خارجية وحدائق . تطل الشرفات كذلك على حدائق متنوعة في محيط المشروع كون المشروع يقع على منحدر حاد يجعل المبنى يبدو كتلة جبلية تبرز في محيطها .
إضافة تعليق جديد