يعيش العالم ظرفًا استثنائيًا مع جائحة كورونا المستجد. هذه الجائحة التى نمر بها اليوم والتي ندعو الله أن يجنبنا إياها. قد تكون سببًا في تغير أسلوب حياة الناس فيما بعد، الأمر الذي سينعكس على المدن والمباني بشكل غير مباشر. ولأن دور تخطيط المدن والتصميم المعماري هو رفع أداء المباني ووسائل الراحة فيها ، فلا شك أن السكان في أي مدينة في العالم سيشعرون بالإرتياح والثقة إذا شعروا بالإهتمام بالنواحي الصحية – التي هي وسيلة من وسائل الراحة – في مدنهم ومبانيهم، ولعله بعد أن يتم القضاء على وباء الكورونا المستجد، أو على الأقل التحكم فيه ، سيصبح المطلب الصحي في المباني مطلبًا أساسيًا أكثر من ذي قبل .
على مر العصور كانت النواحي الصحية محل إهتمام في بناء المدن والمباني، يمكن هنا أن نرجع أكثر إلى الوراء لنتذكر كيف كانت عليه المدن والمباني التقليدية في منطقتنا، فالبرغم من أنه لم يكن هناك وعي صحي ، كما هو اليوم ، الإ أن تصميم هذه المدن كان يساعد على التقليل من الأمراض المزمنة التي تزيد من تأثير خطورة الأوبئة. فالحركة في هذه المدن كانت مشيًا على الأقدام والمعروف أن زيادة الحركة يجنب أمراضًا مزمنة مثل مرض السكر، كما كانت المباني توفر تهوية طبيعية جيدة من خلال أفنية داخلية مفتوحة للسماء، ولم يكن هناك في هذه المباني نوافذ زجاجية بل فتحات توفر التهوية المستمرة والمعروف أن توفير التهوية الطبيعية الجيدة يساعد على تحسين أوضاع مرضى الربو. كما كانت المباني تحتوي على فراغات للعيش في الخارج مثل الأفنية وأسطح المباني مما يساعد على عدم الشعور النفسي بالانغلاق.
مع التطور الاقتصادي السريع وزيادة الطلب على المباني وتوسع المدن تم التشجيع على البناء السريع بكميات كبيرة وبأسعار منخفضة، الأمر الذي أضر بنوعية المباني ومنها الجوانب الصحية بالرغم من تطور الصحي الحاصل في أنظمة شبكات توزيع المياه وتنقينتها وشبكات مياه الصرف ومعالجنها وأنظمة التكييف ووسائل الراحة المختلفة . فزادت الكثافة السكنية وأهملت الإضاءة والتهوية الطبيعية واتسعت المدن، وقلت المساحات المفتوحة والخضراء، واعتمدت الحركة على السيارات، وقلت حركة الإنسان، وتفشت زيادة الوزن، مما أدى إلى زيادة عدد الأمراض المزمنة وأصبح العالم ضعيفًا أمام والأوبئة والجوائح.
في الحقبة الأخيرة ، وفي إطار تطبيق مباديء الاستدامة وجدنًا إهتمامًا للجوانب الصحية عند تخطيط وتصميم الأحياء والمباني. لقد أصبح التصميم الصحي للمدن والمباني وقبل أن يظهر وباء الكورونا المستجد، مطلبًا تصميميًا هامًا علاوة على المتطلبات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. فالمدن والمباني لا تستطيع أن تقضي على الفيروسات أو البكتيريا بطريقة مباشرة ولكنها تستطيع أن تساعد وتشجع على تحسين أوضاع السكان في حالة الأمراض المزمنة التي تضاعف من خطر الأصابة بالأوبئة الخطيرة ؛ من خلال تحقيق وتحسين الفضاءات العامة لتشجع على ممارسة الرياضة وتوفر الخدمات على مسافات قصيرة من المساكن للوصول إليها مشيًا، ومن خلال تحسين فرص التهوية الطبيعية داخل الأحياء والمباني ، وتوفير الإضاءة الطبيعية والإنفتاح على الخارج من خلال الأفنية والشرفات لتسمح باستمرار الحياة في الهواء الطلق كما أن تعميم الخدمات الصحية على الأحياء بشكل كافي لتكون قريبة من السكان يساعد على متابعة المرضى من السكان عن قرب وخاصة كبار السن الذين يعتبرون أكثر فئات المجتمع تعرضًا للأوبئة في حالة تفشيها.
وإذا كانت المدن المزدحمة بالسكان أداة مثالية للتطور الاقتصادي إلا أنها تعتبر مكانًا خصبًا لإنتشار الأوبئة . هاتين الحقيقتين المتعارضتين يشكلان المشكلة الرئيسة التي تواجهها المدن في العالم اليوم مع جائحة كورونا المستجد ، فهذه المشكلة ستفرض على سكان المدن الكبيرة أسلوب حياة جديد وحلول مبتكرة لأساليب عمل جديدة في كافة المجالات التعليمية والتجارية والثقافية وغيرها، ومراعاة معايير جديدة للكثافة السكنية والنقل والحذر المستمر من تفشي الأمراض . بحيث تضمن استمرار حركة الاقتصاد . وهو ما يحدث الآن فعلاً من خلال تفعيل وسائل التعليم عن بعد، والعمل عبر الأنترنت ، والتطبيقات الخدمية المختلفة التجارية والصحية ، مماسيدفع إلى إعادة النظر في استعمالات المباني من جديد بشكل جدي من حيث موقعها ومساحاتها وخدماتها الأمر الذي سينعكس بدوره على أساليب تخطيط الأحياء والمدن وتصميم المباني.
الناشر ورئيس التحرير
إضافة تعليق جديد